ثقافة ومجتمعهاشتاق

سدوم….

في ثمانينات القرن الماضي، كان فتية موريتنيون من المبتعثين للاتحاد السوفيتي آنذاك، في طريقهم الى الوطن مرورا بالمانيا. لم تكن رحلة فائقة الترتيب، ومر الفتية في محطتهم تلك بكرب سفر؛ فجعلوا يخمنون كيف لهم ان يجدوا شخصا من بني جلدتهم جنوبا في تفاصيل مشهد تلك المدينة الالمانية.
جعلوا يمشون تداعيا حرا دون كبير امل ولا حاد تصميم حتى ابتلعتهم التفاصيل وهم تائهون. بينا هم كذلك استوقفهم “ابيظهم أذنا” فجأة أن قد خيل اليه انه قد سمع “ردة” من الهول، فتمادوا منصتين وتنادت على رؤوسهم طير استراق السمع، فعرفوا بعد ذلك ان الأمر صحيح وانهم قد سمعوا شيئا من “الهول”، وأن ذلك مدعاة لليقين ان فردا من ارض البيظان من اسمارة حتى النوارة ومن الحنك حتى الضفة يعيش هناك.

بعد ذلك بقليل – قليل هنا في الزمن السردي، كثير في الزمن النفسي حينها – كانوا في استضافة موريتنيين، والمقام تحرار والردات سدوم-ديمية من تلك التي تُماز ضمن مهرجان اصوات ونغمات من كل الثقافات؛ فهي ذات خصائص وجدانية يعيها الموريتني بلاوعيه لكثرة ما ابهجت وعيه! بذلك الاكتشاف، اعتذرتْ وعثاءُ السفر منسحبةً، وافسحتْ كآبةُ المنظر لضدها المجالَ، وذابت دولة الجرمان عرضا وبدا “هيجل” بدراعة من امظلع الخميني لبرهة وابتسم اينشتاين لتأكد نظريته في طور اعمق من المادة؛ ان الروح نسبية وان كتلتها تتغير بسرعة الحافز الطربي.

سدوم،
في هذا القطر ليس مطربا، إلا ان قصد أثر الاستماع على المتلقي، فهو خامة اشمل من ذلك؛ بل قل هو “حالة”. اقول فيه هنا قولا للفنانة الكبيرة النعمة قالته عن نفسها واعجبني في بلاغته: حيث قالت ذات مرة : “آن ما مستكوي مني ماه حسي”. حت سدوم ما مستكوي منُّ ماه حسُّ.

انا من جيل درج في الصبا على استراق السمع ليلا امام تحويشة اهل آب في مدينة ر حين تبدأ وصلات سدوم ؤديمي والخليفة، رحم الله من قضى، ومن جيل شب على مرور ساعة العصر استعراضا لتتابع نغمات سدوم منبعثة تترى من استندرات شارع اكلينيك، قلت؛ ليس من المبالغة ان حكمنا ان هول سدوم ؤديمي ربَّانا اجيالا جعلتها تلك العذوبة والانتقاء للكلمة في طوق عن الانحراف والابتذال. بالعامية: احن كن اموثقة بينا اللل نصنت ال سدوم!

يقول طه حسين في “الأيام”متحدثا عن ما آل اليه من مرور الشيخ ول اتلاميد بالازهر -رحمهم الله- كلاما مميزا في حق الشنقيطي ذاك ثم يضيف:”وسمع الفتى (محدثا عن نفسه) لأول مرة “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل” مشيرا لبداية عهده مع الفصاحة والشعر الجاهلي،وقد اعتمد محمد عبده رحمه الله ذلك الدرس واسنده للشنقيطي في الرواق العباسي ..
لعلي ان انتهجت منهج طه حسين فجعلت نفسي بطل تلك اليوميات نيابة عن جيلي لقلت؛ وسمع الفتى لأول مرة “وقفت عشية ببلاد ليلى” فالقت في روعه عذرية سلوك رومنسي كابح لفورة شبابه السلبية. قلت ان سدوم ربانا اجيالا فهذب مشاعرنا ترفعا، بل قل إن له نصيبا من عذرية سلوكنا مراهقين آنذاك. فالفتى الذي يسمع عشيا قول سدوم : “وبأبرق الحنان منزل زينب ..” ثم يجيب بوجدانه على التساؤل الوارد في ذلك البيت من مديحية ذاك مدخلها: “افلا تحن لأبرق الحنان” لن يبدع في الانحراف العاطفي وسيعافه. او ذلك الفتى الذي ينتظم في سبع دقائق مشهودة من “عيد المولود” حتى تقول ديمي، رحمها الله؛ “ليلى ذ يخوتي منه”: ذلك الفتى سيكون مراهقا نبيلا وشابا مترفعا على مظان صياعة كثيرة كانت تترصدنا حينها ونالت منا بعدها حين ركن بعضنا للموسيقى الغربية. فسدوم غنى بانتقاء في الكلمة والقائل ولذلك اوصل ووصل بعذوبة واحكام.

من اسمعه سدوم في فورة الشباب ابيات الشيخ سيدي محمد ول الشيخ سيدي الكبير – رحم الله الجميع، وكان السامع فتى غضا مندفعا غير لبق العبارة، فستنال منه طربا وتأدبا ودربة على المعالي من العواطف:

دَمْعًا تُبْقِيَانِ بِغَرْبِ عَيْنِ // وَقَدْ عَايَنتُمَا دَارَ الْكُنَيْنِ
أَلَيْسَ مِنَ الْوَفَاءِ لِقَاطِنِيهَا // إِذَالَةُ مَا يُصَانُ بِكُلِّ عَيْنِ

سيجد فتوى وجدانية راقية وقورة عند تماديه طربا وتمعنا في المسموع والمقول:

بَلَى إِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَغَانِي // بِمِنْهَاجِ الصَّبَابَةِ فَرْضُ عَيْنِ
وَإِن لَّمْ يَبْقَ مِنْهَا غَيْرُ رَسْمٍ // كَوَشْمٍ فِي نَوَاشِرِ مِعْصَمَيْنِ
فَإِنَّ لَهَا يَداً دَيْناً عَلَيْنَا // وَحَقٌّ أَنْ يُؤَدَّى كُلُّ دَيْنِ

لقد علَّمَنا سدوم من حيث اطربنا؛ وذلك في مذهب علم التربية والبيداغوجية قمة التحدي ومزج التمر والزبد معا في غير مظنة الجمع بينهما! فالنفس يرسخ بها ما ابهجها ووجهها. لذلك، فليفهم اهل اليوم ان للفن شرطا مركبا اصله القبول والانتقاء وملامسة خلجات انفس الناس. لم يكن سدوم ؤديمي محترفي فن بالمعنى التجاري بل اطربا خيرية واتزيوين فكتب لهما البقاء والصيت الحسن. حقوق ملكيتهما الفنية اشيعت مجانا لكنهما لم يخسرا مالا بل كسبا عزا وقربا!

كنت الفتى المرتاد للثانوية العربية حينها، اذا مررت ب”استندر” لزمت المكان توقيفا حتى اسمع، وقد شهدتُ شارع اكلينيك، اواخر الثمانينات، من لدن “الزهراء” غربا حتى “زبيدة” شرقا، والماشي يمشي فيه فلا يسمع غير سدوم في مقامات متنوعة ولا يجد نشازا رغم تفاوت بث التسجيلات؛ لأن الصوت في ذاته غاية.
اما في غربات الدراسة، فلا أحسب موريتنيا يفقه كلام البيظان والعربية -ولا حتى اجنبيا يتذوق الفن الحساني – لم يؤنس سدوم ؤديمي وحشتَه ويبلغاه مراتب التفوق بما يضفيناه من بهجة واستدعاء للوطن وحرص على العود بشيء؛ شهادة او تحصيلا ماديا ان كان تاجرا مغتربا: تلك من مظاهر السحر المحمود في الفن ويصعب شطبها في ميزان التحفيز والتأهيل النفسي. بذلك اهدانا سدوم، دون ان يدري، حافزا مفاده انك ينبغي ان تعود لوطنٍ ذاك صوتُه وتلك تفاصيل جمالياته، ان تعود له غير فاشل وان تعاود ان فشلت لتنجح. الفن ليس مجرد عبث وسدوم مُنِح اهلية تأثير عجيبة.

كان هول سدوم ؤديمي للطلبة وطنًا وجدانيا، وراعي بذل دراسةً، ومؤطر مسارات ارتباط اجتماعي وود شخصي ورومانسية نبيلة؛ فكم فتى اجتهد مذاكرة على انغام ذلك الفن وهو يمني النفس بصاحبة الحظ -شور لخيام- التي كفاه سدوم، عبر اشعار غنائه، كلَّ قولٍ فيها؛ فصار يهديها المقطع كذا؛ فتصل الرسالة! فسدوم سفير اجيال الى “أنصافها” الاخرى وهي سفارة قل من يقوم بها او هو بها اليوم زعيم. اسر تآلفت على صوت سدوم ؤديمي وتصالحت عليه عند الاختلاف! كثيرون يغفلون تلك التفاصيل وهي ذات وجه في فهم حضور الصوت المعبر والخلق الحسن.

في بداياتي ضمن مسار الجرأة اغل لغن واركوب آزاي، حضر سدوم دون تكلف. اذكر انه قوَّلني كاف شور ذات جلسة قاهرية مع رفقة قد تحلقوا في فسحة ديماس على دور ورق. وكان لي صديق عزيز اراد مشاكستي فالمح الى الشور المسموع حينها في شريط لسدوم ؤديمي، فجعل يستحثني لقول كاف تحديا وانا صاحب يد افمرياص ما الهيه بيها حته (اي محض الربكة لدي)، فقلت
لنوب عن هول البيظان — ولياسر من ناسِ ناسِ
كنت اماسِ عنِّ وانبان — فكَّدْنِ ذ الشور ابناسِ!
فاسعفني صوت سدوم في تجاوز ذلك التحدي بعفوية اخرجت مني ذلك الكاف 🙂 وحصل ذلك قبل انتهاء البوسة.

ما قدرو الفتى الشيخ سدوم قدره، وان كان لدى مريدي فنه غنيا عن بهرج التكريم والرسميات التي ستجمعه ب”بمعلَّبات” اولى ان لا ترد في ختام يوم شدا فيه سدوم ساهيا.

حين كتبت، راوحت بين ذكر سدوم منفردا وبين ذكر سدوم ؤديمي رحمها الله؛ فعلت ذلك من باب تنويع التعبير فحسب، فهما رتق واحد أداء ومكانة لدينا. الم تروا كيف ان تفاعلهما في الهول هول في حد ذاته! من منكم يسعه نسيان قول ديمي “حكلل خصرهان”: حين قرأ سدوم بيتا كان قد اطرب به بلفظ آخر قبل ذلك، فاستوقفته هي لتصر على سماعه كما قيل اول مرة ولو كان اقل صحة قراءة! تلك أمة! قد خلت قبل الأورغ وتقنيات الصوت المحسن وقبل خلطات الزنجبيل وفلاتر اسناب .. وقبل اغن تلفون الأبيسويري. تلك أمة ومن امة اسمها تكانت؛ تتنفس الفن، ؤتوف. واراني بعد ماني من تكانت، لعل اشك حد عني متمحجي؛ سدوم لدينا معشر البتالمة -كما هو لدى الوطن البيظاني- ملك عام نفيس.

عبد الله محمد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى