sliderمقالات ورأي

النظام التربوي الموريتاني: بين خبط عشواء وشعارات جوفاء(الجزء الثاني) إعــــداد: د. سيدي محمد/ المصطفى/ بنّاصر 

 

 

 

النظام التربوي الموريتاني بين خبط عشواء وشعارات جوفاء
سيدي محمد/ المصطفى/ بنّاصر

تقديم: تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال (خبط العشواء) ما يُعانيه النظام التربوي الموريتاني من تخبّط وعشوائية أدّت به إلى منزلقات صعبة ومزمنة، وقد اخترنا ثلاثة أمثلة لذلك هي: إجراءات 1979، وإصلاح 1999، ومقاربة الكفايات في موريتانيا، ويعود سبب اختيارنا لهذه الأمثلة دون غيرها (مع كثرتها) إلى مدى انتشارها و شموليتها لقطاع واسع من النظام التربوي وكذا عمق الآثار الناجمة عنها. 

   ولما كانت هذه الأمثلة المختارة قد عمّت بها البلوى وأصبحت مُعتادة لدى الجميع كان تجرّؤنا على وصفها لأول مرة -حسب علمي- في أدبياتنا التربوية بالتخبط والعشوائية يحتاج إلى إشراك القارئ الكريم في الكثير من الحقائق التي تحتاج إلى شرح وتفصيل حتى للعاملين في الميدان الذين واكبوا تلك الإجراءات التخبطية، فكيف بغيرهم ممن ليس له إلمام بالتعليم وليس من اختصاصه، في حين أن هذا المقال – كما أسلفنا في الجزء الأوّل- موجّه للجميع ليكون على بيّنة مما يجري في قطاع التربية والتعليم في البلد باعتباره القطاع الذي يهمّ الجميع ويتأثر به الجميع بدون استثناء؛ وهذا التفصيل ربما أدى بنا أحيانا إلى التطويل وذلك ليكون الجميع في الصورة، ولكي يفهم المخاطب تماما ما نعني، فلا جدوى من خطاب من لا يفهم، بل قد يكون من البلية كما يُقال.

   واستشعارا منا لذلك التطويل الحاصل في الجزء الأول حاولنا تشذيب الجزء الثاني والاكتفاء بالإشارة لبعض الأمور وترك بعض التفاصيل التي قد تساعد على إدراك أكثر لتلك الأمور (مثل بعض الإحصاءات ونتائج بعض الدراسات) على غرار ما فعلنا في الجزء الأول، واللبيب كما يُقال تكفيه الإشارة. آملين ألا يكون الإسهاب في الجزء الأول مملاّ ولا يكون الاختصار في الجزء الثاني مخلاّ.

II- الجزء الثاني: النظام التربوي الموريتاني والشعارات الجوفاء: الشعار: “العلامة في الحرب والسفر” وهو أيضا “علامة تتميّز بها دولة أو مجموعة”، ونحن – هنا- نعني بالشعار ما يُرفع من علامات دالة على توجّهات معيّنة للدولة في مجال التربية والتعليم. أما الجوفاء فهي مؤنث الأجوف و”الجوفاء من القنا والشجر: الفارغة”، وهذا الفراغ هو ما نقصده هنا في حديثنا عن الشعارات التي ترفع لتحقيق أهداف عظيمة لا خلاف في أهميتها وأولويتها، ولكنها تكون فارغة، بمعنى أن النتائج المتمخضة عنها لا تتناسب والأهداف المرجوة منها ولا الجهود المبذولة من أجلها، أو عندما يتمّ إفراغها من محتواها وتحويلها إلى أهداف ووجهات أخرى غير ما تعنيه تلك الشعارات، وقد اخترنا هذه المرة- أيضا- ثلاثة أمثلة من تلك الشعارات التي عرفها نظامنا التربوي، والتي وُجّهت إليها الكثير من مقدرات الدولة ولا تكاد تفضي – في النهاية- إلى نتائج إيجابية ملموسة، بل إنها أدت في بعض الأحيان إلى نتائج سلبية على منظومتنا التربوية، ومن هذه الأمثلة:

1- محو الأمية: ويعني تعليم من لم يتعلم، وفي المصطلح العام هو تعليم من كبُر سنه ولم يتعلم. وهو هدف عظيم لا يُطلب لذاته فحسب بل باعتباره وسيلة للتنمية وشرطا من شروط الأمن القومي،  وقد دعت إليه عدة منظمات إقليمية ودولية مثل جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة. وقد تبنته الدولة الموريتانية منذ فترة طويلة وأصبح شعارا تستخدمه الكثير من الحكومات المتعاقبة، وبدا الاهتمام به جليا منذ بداية الثمانينات من القرن العشرين، وبموجبه تمّ تنظيم الكثير من الأنشطة والحملات الوطنية الهادفة للقضاء على الأمية بمختلف أنواعها وخاصة الأمية الأبجدية لاسيما في الأرياف كما في المدن؛ وسُخّر لذلك الكثير من موارد الدولة على محدوديتها. وقد ظلّ محو الأمية يتقلب في درجات الاهتمام به من حكومة لأخرى، فسجّل بروزا لافتا في فترات معيّنة فأصبحت له كتابة دولة ومنسقيات جهوية، واستقرّ في أحضان بعض الوزارات كالتهذيب والشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي في فترات أخرى، وتوّج هذا التوجه بداية القرن العشرين ببناء العديد من “دُور الكتاب” في الكثير من الأماكن بالبلاد واقتناء الألوف المؤلفة من الكتب من مختلف العناوين والأحجام. وإذا ألقينا نظرة سريعة على مسيرة محو الأمية في البلاد فسنلاحظ أن النتائج كانت هزيلة؛ وبدون أن نستعرض التقارير والدراسات الصادرة محليا ودوليا في فترات مختلفة ( وذلك طلبا للاختصار)، فإننا نكتفي بالقول بأن ما ذكر من جهود تبين أنها مجرد شعارات موسمية جوفاء، مصحوبة بفرقعات إعلامية تبرُز أحيانا وتختفي أحيانا أخرى؛ ولنا أن نعلم اليوم، بعد عقود من الاستغلال المفرط لهذا الشعار، بأن محو الأمية، الآن، شبه متوقف تماما في البلاد، أما دُور الكتاب التي ذكرنا فقد بنيت دون أن ترفق بتصور سياسة محكمة لإدارتها واستثمارها، ولذا صارت مجرّد تبديد لأموال البلد، وآلت إلى أن تُحوّل – في معظمها- إلى استخدامات أخرى أكثر نفعا للدولة (مثل مراكز للحالة المدنية)، أما الكتب فكان مصيرها النهب والضياع. وأما النتائج المسجلة فنكتفي بذكر ترتيب موريتانيا في مجال محو الأمية الصادر عن منظمة اليونسكو (2014)، حيت تحتل موريتانيا آخر رتبة في الدول العربية (مع العلم أن المنطقة العربية هي الأضعف عالميا في مكافحة الأمية بعد أن تجاوزتها إفريقيا) وذلك بنسبة أمية بلغت عندنا 48% لمن هم دون سن 15 سنة، أما ما فوق 15سنة فقد بلغت نسبة التعلّم 58% فقط، وهو ما يضع علامة استفهام حول الأرقام المعلنة عن نسبة التمدرس في البلاد أو نسبة الاستبقاء المعلنة، ويأتي كل ذلك بعد رفعنا -ولفترة طويلة- لشعار: “التربية للجميع” ، والذي سنتناوله فيما يلي. 

2- التربية للجميع: وهو كذلك شعار وهدف نبيل كما يتضح من تسميته، كما أنه ليس من اختراعنا، فقد تبنّته العديد من الإتفاقياات الدولية مثل: اتفاقية جومسيان 1990م حول التربية للجميع، والتي تضمنتها العشرية الإفريقية للتربية (1997-2006) وأكد عليها منتدى دكار عام 2000م. أما على مستوى موريتانيا فإننا نؤكد أن العيب ليس في سلامة الهدف ونبله، وإنما استغلاله مطية لمآرب أخرى جعلته يحيد عن مسلكه وحوًّلته إلى مجرّد شعار فارغ. من ذلك ،مثلا، أنه في عقد التسعينات كانت أعداد التلاميذ في المدارس تُضخّم على مستوى الإدارات الجهوية للتعليم وذلك بغرض الوصول لرقم معيّن، ربما لإرضاء الممولين وجعلهم يمنحون قروضا جديدة، تلك الأرقام المزيفة التي شملت مجالات أخرى كالاقتصاد وتمّ كشف بعضها إبان فترة المجلس العسكري الذي استولى على الحكم سنة 2005. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فالبحث عن التمويلات وإن أمكن تبريره بحجة أو بأخرى، فإن ما لا يُمكن تبريره هو تبديد تلك التمويلات تحت مظلة شعارات زائفة انقلبت وبالا، في بعض الأحيان، على نظامنا التربوي نفسه. ففي غياب تطبيق معايير موضوعية للخريطة المدرسية، وعدم احترام تلك المعايير تحت ضغط الساسة والوجهاء، وفي خضم محاولات تعميم التمدرس(وإن كانت نسبة التمدرس قد سجّلت قفزة مُعتبرة) تماشيا مع شعار التربية للجميع  في أفق العام 2000 (وإن كانت التربية بمعناها الحقيقي لا تعني الكم فقط بقدر ما تعني الكيف والكيف فقط) فإن كل ذلك قد أدى في المُحصّلة إلى افتتاح الكثير من المدارس غير المكتملة بل والصّورية أحيانا، حيث لا يزيد تلاميذ بعضها على 12 تلميذا أو أقل عند افتتاحها؛ ومع ذلك تجد الدولة تشيّد البنايات الكبيرة والعديدة لصالح ذلك النوع من المدارس، ويُحوّل إليها المدرّسون رغم ضآلة أعداد تلاميذها، وهو ما شجع ظاهرة التقري العشوائي. بينما تعاني مدارس في أماكن أخرى من الاكتظاظ ونقص المدرّسين، وكل ذلك يجري تحت مظلة شعار التربية للجميع. وقد أدى ذلك لتشتيت جهود الدولة وتبديد إمكانياتها، بل إنه، أكثر من ذلك،خَلَقَ للنظام التربوي معضلة جديدة تتمثل في كون 4/5 مدارس التعليم الأساسي- مثلا- غير مكتملة البنية، مما ينهك الوزارة المعنية بتوفير المدرّسين من مختلف الشعب لمدارس لا تستقبل سوى أعداد قليلة من التلاميذ، وهو ما أدى بدوره لانتهاج أساليب تربوية مشكوك-تربويا- في مدى صلاحيتها، ومشهود بضعف مردوديتها قياسا على التعليم في الظروف العادية (تلك الأساليب مثل: تجميع الفصول في المدارس القليلة العدد، والتفويج في المدارس الكبيرة العدد)؛ إضافة لما ينجرّ عنها من أعباء مالية وتقليص للجدول الزمني للدراسة. وفضلا عن التأثيرات السلبية لكل ذلك على مستويات التلاميذ خاصة، فقد كانت تبعات تنفيذ هذا الشعار كارثية على النظام التربوي بشكل عام، حيث أدى لتشتيت جهود الوزارة المعنية وتبديد مقدراتها من الموارد البشرية والمادية، فلولا هذا الوضع وما يُرافقه من معوّقات أخرى تخص تسيير الموارد البشرية لكانت نسبة مدرّس/تلميذ الآن مريحة، ولما كان هناك عجز في المدرّسين كما نشهد اليوم،  وقد أدى هذه الوضعية أخيرا إلى ردة فعل عكسية من وزارة التهذيب حيث عمدت في السنوات الأخيرة إلى إغلاق العديد من المدارس وبالتالي خسارة الكثير من البنايات التي شيدت لصالحها، ولا يزال البحث جاريا عن وسيلة للتخلص من الآثار السلبية التي خلّفها استغلال شعار: التربية للجميع بحلول 2000م.

3- الأيام التفكيرية والمنتديات العامة للتهذيب: وهي شعارات تطلق من حين لآخر على أنها خطوات نحو إصلاح النظام التربوي. وما إن تظلنا تلك الشعارات الجذابة حتى تنتعش فينا الآمال، وتشرئبّ أعناق الجميع إلى غد مشرق لمنظومتنا التربوية إلا أنها سرعان ما تنقشع عن أوهام لا طائل من ورائها. وكمثال على ذلك تمّ تنظيم “أيام تفكيرية حول إصلاح المنظومة التربوية” وذلك في سبتمبر 2006، وكلفت الوزارة وقتها مئات الملايين من الأوقية، وقد صدرت عنها العديد من التوصيات والتوجيهات الهامة ولكنها لم يُلتفت إليها حتى اليوم بدليل أنه لم يتم تنفيذ أي منها. وقد تكرر الأمر ذاته سنة 2012 عندما نظمت “المنتديات العامة للتهذيب” في شهر يونيو من العام المذكور، وقد تمّ التحضير لها بشكل أفضل من سابقتها، حيث تمّ اكتتاب خبراء وطنيين لإنعاشها وتوجيهها، وذلك بعد تحيد ثمانية محاور يتمّ من خلالها تأطير مواضيع تلك المنتديات، وصدرت عنها الكثير من التصورات والمقترحات الهامة، إلا أنها لم تكن أحسن حظا من سابقتها حيث تمّ إهمال كل ذلك ولم نسمع عنه من بعدُ إلى اليوم. وبصفتي مشاركا في المناسبتين فقد سجّلت جدّية واهتماما كبيرين من قبل أغلبية المشاركين من أطر التعليم الأساسي والثانوي، وقد خرجوا بنتائج وتوصيات هامة ولكنها –كما أسلفنا- لم تعرف طريقها للتنفيذ إلى اليوم، لتؤكد لنا أنها مجرّد شعارات –مثل بقية الشعارات- ترفع من حين لآخر، وتكلف الدولة أموالا طائلة، ليظهر في الأخير أنها مجرد شعارات جوفاء لا تقدم ولا تؤخر إن لم تكن لها آثار سلبية كما رأينا في الشعار السابق.   

   وهكذا، وبعد ما لا يقل عن أربعين سنة من التيه الذي عرفه نظامنا التربوي يتطلع كل مواطن موريتاني إلى حصول تغيير إيجابي يفضي إلى إصلاح المنظومة التربوية التي أصبح يلهج بفسادها كل لسان من القمة إلى القاعدة. ومن أجل ذلك سعينا في هذا المقال لإزاحة الستار عن بعض الممارسات والأساليب التخبطية والشعارات الزائفة، آملين أن يكون ذلك مدعاة للجميع للتفكير بجدية في المستقبل، وتجنب الأساليب العشوائية في تسيير النظام التربوي والأخذ بقواعد التخطيط التربوي في التصور والتنفيذ والمتابعة والتقويم، وعندما نقول التقويم فإننا نعني التقويم الذي ينتهي باتخاذ قرار، وليس التقويم من أجل التقويم- كما هو شائع في نظامنا التربوي- دون أن يُستتبع بإجراءات لتصحيح المسار وتعديل الأهداف عند الضرورة. كما نأمل أن يكون هذا المقال دافعا للبحث عن حلول لما تعاني منه منظومتنا التربوية.. حلول تتناول جميع عناصر المنظومة التربوية، وليس الحلول الترقيعية التي تعتني بعنصر أو أكثر دون بقية عناصر النظام، فتلك الحلول لا تُصلح النظام التربوي لأنه، بكل بساطة، نظام (أنظر تعريف النظام في الجزء الأول من هذا المقال، أو في غيره). ولن يتم ذلك إلا في جو تسود فيه العدالة والشفافية في التسيير من خلال وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتطبيق مبدأ العقوبة والمكافأة… كما نأمل أن يُدرك الجميع أن وضعية النظام التربوي تزداد سوءً بعد كل خبطة عشواء، وأن أمل الإصلاح يتلاشى بعد كل شعار زائف. فإلى متى سنظل متفرجين على الوضعية الخطيرة التي يوجد فيها نظامنا التربوي؟.. إن الانتشار الأخير للجرائم في مجتمعنا المحافظ، والانحلال الخلقي، والبؤس الاقتصادي والاجتماعي… ما هي إلا بعض تجليات العجز الذي تعرفه منظومتنا التربوية التي يُفترض أن تجعل من المدرسة بيئة مصفاة من كل الشوائب، تُكوّنُ الأجيال الطالعة على الفضيلة وتعمل على محو الفوارق الاجتماعية، وتصوغ الجميع في بوتقة واحدة لخدمة الوطن، وتخلق جيلا مُحصنا ضد مساوئ العولمة الجارفة.. وإذا لم نتدارك الموقف بسرعة من خلال إصلاح تربيتنا، فإن البديل – لا قدًّر الله – هو دمار حضارتنا التي شُيدت على مدى القرون، وتفكك مجتمعنا الغالي، حيث إن الحضارة كما يقول أحد المربين ” هي سباق بين التربية والدمار، وإذا لم تحرز التربية قصب السبق سار العالم –لا محالة- إلى دماره”.. إن العديد من المظاهر التي يشهدها مجتمعنا اليوم تثبت فشل نظامنا التربوي وتطلق صفارات إنذار ونداءات استغاثة للجميع، فمثلا ظاهرة الأطفال الجانحين، وتدهور قيمنا الثقافية والاجتماعية الموروثة وجيوش العاطلين عن العمل من حملة الشهادات وغيرها كثير.. كلها أمور تنادينا بصوت مرتفع واحد: أن كفى من إهمال منظومتنا التربوية.. كفى من الإجراءات التخبطية .. كفى من الشعارات الجوفاء.. كفى .. كفى. 

سيدي محمد/ المصطفى/ بنّاصر 

  • تخصص: علوم التربية والقيادة 
  • مفتش تعليم أساسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى