الهجرة إلى اكليب اندور.. (أرض الأحلام)
رحلة الألف ميل، تبدأ بخطوة واحدة.. الطريق شاق إلى “اكليب اندور”، قبلة الشباب والنساء والشيوخ، لتحصيل المال والثراء، في وقت وجيز، من خلال ما تجود به الأرض من خيرات حين تُخرِج أثقالها، أو تُخرٓج، ولو كلف الأمر التضحية بحياتهم، حيث لا يوجد مسعف ولانقطة صحية، عندما تتساقط أجداثهم في الحفر وتبتلعهم طبقات الأرض.
كل ذلك وغيره من المعاناة يهون، ويصبح في خبر كان عندما يحصل أحدهم على بضع اغرامات من المعدن النفيس، 13 ألف أوقية قديمة، مقابل الغرام الواحد.
كيف لك أن تحصل على لقب “منقب”
لكي تصل إلى “اكليب اندور” وأخواتها “لكريبة الخظرة والبيظة” وغيرهما، يجب أن تتقاسم أولا مع ساكنة العاصمة المعدنية ازويرات، جمال مدينتهم الصغيرة التي بالكاد تتسع لأطر وعمال شركة المناجم اسنيم، فما بالك بأزيد من عشرة آلاف نسمة يممت صوبها فجأة.. لم يتمكن بعض الساكنة الكرماء بطبعهم، من اخفاء انزعاجهم جراء زحام حل بهم فجأة، تسبب في ارتفاع جنوني للأسعار، ضف إلى ذلك أن الوافدين الجدد قدموا فرادى وجماعات فشكلوا عبءا ثقيلا على أقاربهم من “الزواك”؛ لقب يطلق عادة على غير الساكنة الأصليين.
لكي تصبح منقبا الأمر يتطلب رحلة شاقة إلى مدينة ازويرات، مرورا بحاضرة تكانت، إذا كنت سالكا طريق “تجكجة أطار ازويرات” قادما من الشرق الموريتاني، الأمر هنا يتعلق بالمئات، تركوا الانتجاع شرقا ليلتحقوا بأرض الأحلام شمالا… أما إذا كنت قادما من العاصمة في الجنوب، وما جاورها، من دون مراعاة لفارق أو تمييز في الأصول، فالرحلة بطبيعة الحال لن تكون سياحية، لكنها أقصر الطرق إلى “جمهورية اسنيم” مرورا بالمدينة الثالثة التي أكل الغرباء خيراتها ولم يجعلوها سكنا… اكجوجت، التي قال أحدهم إن من يزورها يعتقد لوهلة أن أهلها قتلوا نبيا، فحل عليهم الغضب، بينما هم في الواقع طيبون وكرماء أعطوا خيرات أرضهم الظاهرة والباطنة، ولم يحصلوا مقابل ذلك على أبسط مقومات المدينة العصرية.
عند الوصول إلى حاضرة تيرس زمور، يتشكل مشروع المنقب الجديد الذي ترك خلفة عائلته، أم أو زوجة أو أبناء، شاخصة أبصارهم ينتظرون من يجيء.. أحدهم كان مدرس محظرة اختار سلوك أقصر طريق يقرب إلى الدنيا، وللآخرة متسع من الوقت، حين يعود من أرض “ألدورادو” بالمعدن النفيس.. وآخر حصل على 13 كلغ من الذهب في نفس المنطقة، قبل أن تفتح على مصراعيها لكل من هب ودب، يعود اليوم وهو يردد هل من مزيد.. وذاك أصبح بين عشية وضحاها يحمل رخصة وبطاقة عضوية في نقابة المعادن، يستجدي السيارات العابرة، للوصول إلى المجهول، وما أدراك ما نقابة المعادن، تأخذ دون أن تعطي.
الجميع سواسية في طريقة وأسلوب الوصول إلى الصخور الجيرية التي تتحول بقدرة قادر إلى أغلى موجود حالها حال صخرة الشاعر “لوكل كلب عوى ألقمته حجرا.. لأصبح الصخر مثقالا بدينار”.
زحام تفوح منه رائحة نتنة أمام ممثلية إدارة المعادن، لاستصدار بطاقة منقب تقليدي، طبعا ليس ذاك الذي يمنح بمرسوم يوم الخميس من طرف مجلس الوزراء.
ادارة المعادن بالتعاون مع السلطات المحلية حرصت أن تجري العملية بسلاسة، لكن انتهازيون من خارج القطاع، تغلغلوا وسط جحافل الغارمين، فكان لهم رأي آخر.
ورغم ذلك نجح تعاون السلطات المحلية في ضبط تسيير العملية وانطلاقتها وانهاء مراحل هامة منها في الوقت المقرر، رغم صعوبة تسيير 15 ألف نسمة دفعة واحدة.
أرض الأحلام
ضمن طابور يعطي صورة طبق الأصل لجحافل النازحين في دول “الجحيم العربي”، أونازحي مدينة “الموصل” العراقية، قبل اجتياحها من قبل الحشد الشيعي، ترى بأم عينيك قوة الانسان الموريتاني وصلابته.
أول سؤال يتبادر إلى الذهن حين تشاهد هذا المنظر “المحشري”، ماذا لو استصلحت السلطات المساحات القابلة للزراعة في الجنوب ومنحتها للشباب الموريتاني، بعد اقناعه ولو قسرا، أن الذهب الأصفر ليس أغلى وأثمن من الذهب الأخضر، وأن من حق ساكنة الجنوب أن يحصلوا على فرصة وصف ضيوفهم القادمين من الشمال بـ “الزواك”،، ولو لمرة واحدة.
منظر مهيب، الكل يتسابق نحو “اكليب اندور”، 700 كلم على طريق رملي.. مقطع فيديو تم توزيعه يتحدث فيه أحد الشباب موجها كلمته إلى زملاء أشبهت حاله حالهم، وحكى عذره عذرهم، اختصر مكبوت مشاعر متفاوتة: أيها الشباب أنصتوا، لدي مفاجأة، “لعليات كايسات امعان اكليب اندور” تتعالى الصيحات، يمتزج الفرح بالتذمر، يقول أحدهم همسا : هذا هو أمر الله حك، ورانا ورانا.. وفي الطابور لاوجود لما يعطي مبررا وجيها للمستبشرين، كل المنقبات من بنات حواء بلغن من العمر عتيا.
بمجرد سماح نقطة التفتيش التابعة لأمن الطرق بانطلاق احدى السيارات، بعد الحصول على إذن بالتسريح، يبدأ السباق نحو المجهول، لا دليل يرشد على الطريق سوى تطبيق GPS Arro، الذي ينصح كل منقب بتنزيله على هاتفه، ورغم أن التطبيق يحدد الوجهة، لكنه لا يحفظ المسار، مما يجعل مستخدمه يخشى سلوك طريق فرعية، قد تقود فعلا إلى اكليب اندور، لكن قد يضبط من طرف عناصر الجيش الذين يؤمنون المنطقة بيقظة.
المسترشد بـ GPS Arro قد يصنف مهربا أو ارهابيا، بل وهدفا مشروعا لنيران الجيش إذا جن الليل ولم يسعف النظر أو السمع في التنبه للتحذيرات.
المنطقة كانت إلى عهد قريب ضمن التصنيف الأحمر ويحرم بتاتا عبورها، حيث حدثت – قبل فتحها أمام المنقبين – مناوشات بين الساعين إلى الثراء عنوة ووحدة من الجيش، راح ضحيتها مواطن سوداني، وذلك لتطابق السيارة الهدف – التي رفضت الامتثال لأمر بالتوقف – من حيث المواصفات، مع أخرى مشتبه فيها كان البحث جار عنها.
لكن هذه المرة وبما أن الجيش هو من يحرس منطقة التنقيب ويوفر الأمن – ضمن مسافة تناهز 30 كلم هي التي يسمح بالتنقيب فيها – كان حذرا في التعامل مع السيارات التي لم تسلك الطريق المحدد عبر احداثيات منحتها إدارة المعادن، فبعد توقيف السيارة الشاردة يخبر ركابها بأنهم ضلوا الطريق، ويتم ارشادهم وتوجيههم بهدوء وأريحية، بل ربما يساهم ضابط الوحدة في تنزيل تطبيق GPS Arro، برو، وليس المجاني، لأحد المنقبين في هاتفه، مساعدة منه في تحديد وجهته بدقة.
18 دقيقة تفصلك عن منطقة الأخاديد
مهمة آخر نقطة تفتيش للجيش، قبيل ولوج اكليب اندور وأخواتها، هي الاستفسار عن حال الركاب، وهل يوجد من ضمنهم أجنبي، بعد تنظيم السيارات وارشاد ركابها وتفحص الرخص والأذونات يسمح للمركبات التي تصل قبل السادسة مساء بولوج منطقة التنقيب، واحتجاز كل سيارة تتأخر عن التوقيت المحدد حتى صبيحة اليوم الموالي، لأسباب أمنية.
وقبيل قطع آخر 18 كلم، ينصحك أحد العسكرين المرابطين عند النقطة: احذر إشعال ضوء السيارة ليلا، وأينما جن عليك الظلام فارخي سدولك.
من بعيد وقبيل غروب الشمس تتراءى خيم تتمايز في شكلها ولونها، بعضها يجعلك تعتقد أنك على مشارف مخيم امبره للاجئين الماليين في موريتانيا، لأنها موسومة بلازمة الهيئة الأممية للغوث، وهي فعلا تستحق ذلك، فالمهاجرون بحثا عن الذهب، يعيشون وضعا انسانيا صعبا، رغم ضجيج مولدات الكهرباء الصغيرة، والعمل ليل نهار لشق أخاديد يهيأ للرائي أنها من بقايا حرب الخنادق في الحرب العالمية الثانية، بينما الواقع يعكس مأساة بادية للعيان، “ماء أريد ماء” عبارة تتردد على مسامعك، فيخيل إليك أنك تعيش أحداث فلم البحث عن الماء “رانغو”.
حتى الآن لم تصل شاحنات المياه والمؤن، ولن يسمح للسيارات الصغيرة العابرة للصحراء، بدخول المنطقة بعد غد الخميس، 20 دجمبر، واحتكار مهمة الذهاب من وإلى “اكيب اندور” على الشاحنات فقط.
لكن هناك استثناء مجحف ست سيارات لأعضاء نافذين من نقابة المعادن يحملون نفس صفات عيال الله في الأرض اليباب “منقب”، تلعب دور حصان طروادة، منح أصحابها من بين مئات المنقبين حق الابقاء على سياراتهم الصغيرة، يجوبون بها مساحة 30 كلم، لاستكشاف الأرض وبواطنها، ينقلون خيهم ومولدات الكهرباء متى وأين شاؤوا، وحرمت الدهماء من هذا الامتياز.
واقع يستدعي التساؤل عن السبب الحقيقي وراء السماح بالتنقيب في مكان ظل حتى وقت قريب، منطقة عسكرية مغلقة، وحرمان المنقبين من استخدام سياراتهم، لنقل أجهزتهم والتزود بحاجياتهم.
هل يعود الأمر لمنح فرص التنقيب عن المعدن الثمين للمئات من شواذ الآفاق.. أم أن هناك من أراد أخيرا، أن يستفيد أبناء الفقراء من خيرات بلدهم، حتى لو كلفهم الأمر التساقط في أخاديد الموت، عطشا جوعا أو مرضا.
موفد “الحرية نت”