أحمد ولد هارون يتحدث “عن الوثيقة ونشرها”
لم أَعِد أحدا يوما بنشر وثيقة، لأني لا أرى في ذلك فائدة عملية ولا إضرارا بالفساد. فكم من وثيقة مثلها نشرت، من جهات رسمية وغير رسمية دون جدوى. ولا أرى في الاستعجال فائدة ولا تأثيرا في الأمور.
ومع ذلك، وبناء على طلب جزء عريض من الجمهور الكريم، ستُنشر الوثيقة بإذن الله تعلى. لكن في الوقت وبالطريقة المناسبين المفيدين. وسنسعى جهدنا كي تنشر معها دراسة فنية قانونية ومصرفية مختصة، تبين الحق وتقف في وجه البيانات التبريرية والتأويلات الباردة، وتميز ما إذا كان الأمر يتعلق باختلاس، أو تهريب، أو غسل أموال، أو معاملات نظيفة بريئة.
نصحني المحامون والقانونيون بأن أتجنب في الوقت الحالي اللقاءات الإعلامية والحديث عن ملف ما زال قضائيا، قائلين إن الوثيقة تشير إلى أشخاص معينين بصفاتهم، وبالتالي نشرها يمكن تكييفه – قصدا – على أنه إبلاغ، والحكم عليه – قصدا – بأنه إبلاغ كاذب. وما دام ذلك غير متاح لن يبقى إلا الاتهام بتسريب وثيقة سرية، والرد على ذلك سهل.
ونصحني شباب متنورون ونشطاء سياسيون بأن أنظم مؤتمرا صحفيا كبيرا أقدم فيه، وبحيوية، الوثيقة، مع قراءتي الخاصة للموضوع وواقع البلد بصورة عامة، فنرمي بذلك كرة جديدة في مرمى النظام، ونمسك زمام المبادرة.
كما نصحني إعلاميون متمرسون بأن أفعل بالوثيقة ما أمر به المحامي، وأن أقتصر على تقديم واجب الشكر، وتبيان وقائع التوقيف، ونفي الشائعات، وتجديد الموقف والقناعات… وأترك الكرة في مرمى من بحوزتهم أصل الوثيقة واعترفوا بوجودها، دون أن ينشروها، فيكون طلب نشرها موجها لهم.
وعَدت الجميع باتخاذ القرار الأنسب للمصلحة العامة والضغط على الفساد قبل صباح الأحد، بعد التفكير والاستخارة. وبالفعل قررت البدء بالخيار الأخير، في انتظار التحضير للخطوات الموالية، ومعطيات جديدة.
لم أتلق بعد خبرا مباشرا بحفظ ملفي. لكني تلقيت أخبارا غير مباشرة تفيد ذلك. ولم أسترجع بعد هواتفي وحاسوبي، ولم أعد بعد من البادية. وبعد ساعات من استخدام هاتف للأخ سبق أن استخدمته وأرجعته له قبل توقيفي، اتصلت به الشرطة القضائية وأمروه بإرجاع هواتفه إليهم، فأعطاهم ما بيده منها؛ ثم اتصلوا بي – وكأني أحد أشرار اللصوص – لآتيهم من البادية بالهاتف المعار، مما اضطرني إلى إعدامه في الحين وإبلاغهم بذلك، حفاظا على خصوصياتي وخصوصيات الغير من تجاوز القانون.
حتى إني لم أقرأ قبل البارحة البيان الذي كذبتني فيه وزارة العدل، التي عملت بها لأكثر من خمسة عشر سنة، وحيث يعمل إخواني وزملائي الأعزاء المحترمون. ومع أنه لم يكن ولن يكون من عادتي الرد على أي جهة كانت، إلا أني كنت أجل معالي الوزير الجديد، الدكتور محمد محمود ولد بيه، عن اتهامي بسوء القصد لوزارتي السابقة. وذلك لعدة أسباب ليس أقلها تخصصه العلمي الجميل الرقيق: “تاريخ الأندلس”.
إن الوثيقة المذكورة لا تتحدث عن ملف بعينه، وإنما تتحدث عن عمليات متفرقة، منفصلة بعضها عن بعض، تم اكتشافها قدَرا ومصادفة أثناء التحقيق في ملف البنك المركزي الآخر، المعروف بقضية تبِّيبه، والذي هو أخف بكثير – حسب متخصصين – من العمليات المذكورة، ويوحي بأن كل عملية عبارة عن رأس جليد!
لست رجل إثارة أو ظهور في الإعلام، وإنما أنا مواطن موريتاني قرر المشاركة السياسية وخدمة الوطن ومحاربة الظلم والتخلف والرداءة والفساد، حتى النهاية بإذن الله تعالى، ولكن بالتعاون مع المجتمع. وكل ذلك يتطلب نفَسا طويلا وبرنامجا يمتد لعقود.
الفساد متجذر ومتعدد الأوجه والأدوات، لكنه هش، ينهار أمام الضربات المفاجئة المنسقة. ومن يرد الإضرار به إضرارا منهجيا يأتيه من القواعد، يتعين عليه أن يستخدم سلاحه استخداما جيدا، وفي الأوقات المناسبة، مع التخطيط والتنسيق مع القوى الوطنية. وإلا فإن الكشف عنه بالطرق العادية يقع يوميا دون جدوى.
لقد توقعت، وما زلت أرجو، أن تخرج وثائق أخرى هامة، وأن ينبري لكل هذه الوثائق والمعلومات والشهادات والإبلاغات رجالُ قانون ثقات، ورجالُ نضالٍ حزبيون وبرلمانيون ومصرفيون وأكادميون وإعلاميون وشعبيون، يتكاتفون ويتولون تدارسها ومتابعتها وإيصالها إلى كل من ينبغي أن تصله، خصوصا تلك الوثائق التي سبق علم جهتَي الادعاء والتنفيذ بها، ولم تحسما أمرها.
لقد حاولت مع خبراء مصرفيين، وأطر من البنك المركزي بالذات، كي يعدوا دراسة في الموضوع أو يصرحوا بشأنه للجمهور. لكنهم اعتذروا، بما في ذلك المتقاعدون منهم. مع تأكيدهم لي – شفهيا – أن الوثيقة خطرة، وأن حمل مبالغ كبيرة من العملات الأجنبية في الحقائب غير متبع، لا في المؤسسة، ولا في البلد، ولا من قبل الدول والمؤسسسات المانحة… وأن من أقرب تأويلات الموضوع أن يكون هناك تبييض لأموال غير شرعية، وخلطها مع أخرى شرعية. وذلك من أكبر الجرائم الاقتصادية.