ما الذي يفعله الإسبان اليوم في الشمال الافريقي؟ وهل أن نفوذ وتأثير مدريد في ذلك الجزء من العالم يكبر فعلا، أم أن دورها آخذ بالتقلص بعد المتغيرات التي حصلت هناك في غضون السنتين الأخيرتين بوجه خاص؟ حتى إن لم تكن إسبانيا قوة دولية عظمى، إلا أنها تبقى مع ذلك قوة اقليمية مهمة.
والسؤال هنا هو، كيف سيتصرف الإيبيريون الآن مع جيرانهم في الضفة الجنوبية للمتوسط؟ المستبعد في كل الأحوال وفي خضم التناقضات الحادة التي تعرفها علاقتهم بأكبر بلدين مغاربيين، هو أن يراوحوا مواقعهم وأن لا يعيدوا ترتيب أوراقهم بالشكل الذي يسمح لهم بالحفاظ على مركزهم كطرف إقليمي فاعل ومؤثر، في ما يمكن أن يطلق عليه المجال الحيوي المباشر لهم، أي محيطهم القريب.
والإعلان الأخير الصادر عن الرئيسين الجزائري والفرنسي، خلال المكالمة الهاتفية التي جرت بينهما السبت الماضي بعد شبة قطيعة، الذي تضمن عزمهما على «تعميق» العلاقات بين بلديهما، حسبما جاء في نص برقية وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، هو واحد من مؤشرات عديدة باتت تدل على سرعة التفاعلات التي تحصل من هذا الجانب، أو من ذاك، والمدى الذي يمكن أن يأخذه ما كان يظهر في البداية على أنه مجرد خلاف ثنائي عابر ومحدود بين بلدين لا غير. ولا شك في أن التغير الملحوظ في لهجتي ماكرون وتبون نحو بعضهما بعضاً، والتقارب الذي يلوح بينهما بعد جفاء طويل بين عاصمتيهما، يبدو في نظر كثيرين، انعكاسا لحالة الفتور والبرود النسبي التي تعرفها العلاقات المغربية الفرنسية من جهة، لكن أيضا كواحدة من علامات وثمار الأزمة الجديدة بين الجزائر وعاصمة أوروبية أخرى هي مدريد. لكن ما الذي تركه أو يتوقع أن يتركه دخول الإيبيريين العام الماضي في أزمة أولى مع الرباط، ثم دخولهم مجددا بعدها هذا العام في ثانية مع الجزائر؟ بغض النظر عن النتائج أو عن المآلات التي انتهى أو سينتهي لها خلاف البلدين المغاربيين الكبيرين مع الإسبان، وسواء أراد هؤلاء ذلك أم لا، فإنه يبدو جليا الآن أنهم يضعون بصماتهم وبوضوح، لا فقط على جزء من التحالفات والترتيبات الإقليمية التي تجري في المنطقة، بل أيضا على المشهد الإقليمي المغاربي بكامله، وأقوى مظهر لذلك هو ما أقدمت عليه موريتانيا، الأربعاء الماضي، حين خطت ولو بشكل محدود وجزئي نحو القطع مع ما كانت تصفه منذ عقود بالحياد الإيجابي بين الرباط والجزائر، وقررت وبشكل مفاجئ أن تخرج من الرفوف معاهدة صداقة مع إسبانيا، ظلت مجمدة منذ أربعة عشر عاما، بالتزامن مع أزمة الجزائر مع مدريد، حسبما ذكرت صحيفة جزائرية في واحدة من التعليقات العديدة التي حفلت بها وسائل الإعلام المحلية، وكشفت عن حدة الغضب الرسمي الجزائري غير المعلن من تلك الخطوة. وفيما وجهت سهام الجزائريين من جانب، وورود المغاربة من الجانب الآخر نحو الموريتانيين الذين لم يبتعدوا كثيرا عن الإسبان، ولم يقتربوا منهم كذلك بدرجة ملحوظة خلال الأزمة الاولى بينهم وبين جيرانهم في المغرب، فإنهم اختاروا الآن بالذات، أي في الوقت الذي تمر فيه العلاقات الجزائرية الإسبانية بأسوأ مراحلها، أن يفعلوا العكس ويصادقوا على معاهدة للصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا، كانت قد وقعت في 2008 في مدريد، في إشارة واضحة لا لبس فيها إلى أنهم لا يقفون مع الجزائر في خلافها الأخير مع الدولة الإيبيرية، إلا أن كثيرين تغافلوا، أو لم يهتموا بالشكل المطلوب بالبحث في طبيعة الدور الإسباني في دفع نواكشواط نحو تلك الوجهة، وما يمكن أن يمثله لها ذلك من كسب دبلوماسي مهم للغاية، في سياق المواجهة التي فتحت ربيع هذا العام بينها وبين الجزائريين، بعد رسالة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز إلى العاهل المغربي محمد السادس، التي تضمنت للمرة الأولى إقرارا واضحا وصريحا من جانب مدريد، بأن مقترح الحكم الذاتي للصحراء هو «الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية» لحل النزاع الصحراوي. وما تناساه البعض ربما في غمرة التساؤل عن الدوافع الحقيقية التي جعلت الموريتانيين يقدمون على مد أيديهم للإسبان في هذا الظرف بالذات، هو أن الكشف عن رسالة سانشيز التي أغلقت قوس الأزمة مع المغرب لتفتحه مع الجزائر، تزامن منتصف مارس الماضي، مع زيارة للرئيس الموريتاني ولد الغزواني إلى العاصمة الإسبانية، كانت الأولى لرئيس موريتاني منذ 2008، كما أن رئيس الوزراء الإسباني لم يفوت الفرصة حينها ليغرد على حسابه على تويتر قائلا، إن إسبانيا تطمح إلى رفع مستوى علاقاتها مع موريتانيا إلى «أعلى مستوى سياسي». ولم يكن ذلك على الإطلاق من قبيل المجاملة الدبلوماسية المجانية لضيفه الموريتاني. فقد كان سانشيز يدرك جيدا ما الذي يمكن أن تعنيه موريتانيا لبلاده، لا من الناحية الاقتصادية والتجارية فقط، بل من حيث تصور طبيعة وشكل التوازنات التي ستنشأ بعد إعادة توزيع الأدوار والتموقعات الإسبانية في الشمال الافريقي. ومن المؤكد أن الإسبان قد استوعبوا الدرس المغربي جيدا وأحسوا بالحاجة إلى أن يكسروا الشلل والجمود في علاقتهم بجارتهم الجنوبية، وبأنه لن يمكنهم الاستمرار طويلا في معاكسة الواقع الذي فرضته، وبأنه من الضروري والملح جدا أن يوضع حد سريع لذلك، ولو عبر فتح باب آخر لأزمة جديدة مع الجارة الجزائرية. لكنهم كانوا يتحسبون جيدا من أي تبعات أو تداعيات محتملة لقرارهم. ويخطئ من يعتقد هنا أنهم لم يضعوا كل السيناريوهات الممكنة أمامهم ولم يقدروا العواقب والتأثيرات التي ستترتب عن كل واحدة منها.
هل استمرار مدريد في اللعب على التناقضات والخلافات داخل الدول المغاربية سيضمن لها في النهاية تحقيق مصالحها وطموحاتها في المنطقة؟
ومن الواضح أنهم بنوا خططهم، بالاستفادة من تجربتهم في الأزمة الأولى مع المغرب، على العمل بتزامن على مسألتين مهتمين وهما، محاولة توسيع الخلاف مع الجارة المغاربية وتحويله وبشكل سريع من إسباني إلى أوروبي، حتى لا يتخطى الحدود المعقولة والمقبولة في نظرهم، والثانية هي منع وإجهاض أي محاولة قد تصدر من الجانب الآخر لتوسيع الخلاف مع الإسبان وتحويله إلى خلاف مغاربي، أو حتى عربي معها. ونسبيا يمكن أن يحسب حتى الآن للإيبيريين أنهم نجحوا إلى حد كبير في ذلك. لكن هل أن استمرار مدريد في اللعب على التناقضات والخلافات داخل الدول المغاربية سيضمن لها في النهاية تحقيق مصالحها وطموحاتها في المنطقة؟ ثم الأهم من ذلك هل أن تغيير الأوراق وخلطها من جديد في دول المغرب سيفتح أعين تلك الدول على عواقب التعامل المنفرد لكل دولة منها مع الإسبان، وسيسمح لها في مرحلة ما بالتقارب بدلا من تواصل العداء والفرقة بينها؟ الظروف الحالية تدل للأسف على أن المغاربيين حتى إن كانوا يدركون جيدا أن سياسة المحاور والاستقطابات لن تعود عليهم إلا بالوبال، إلا أنهم ليسوا مستعدين تماما للقطع معها، وهذا ما يجعل الإسبان يتحركون تقريبا في ميدان مفتوح، لكن ذلك لا يعني أن الأمور حسمت وأن أشياء كثيرة لن تتغير هناك بعد أن تطوى صفحة ثاني خلافاتهم في المنطقة.
كاتب وصحافي من تونس