sliderالمبتدأتقارير

تقرير محكمة الحسابات والعقوبات الغائبة.. هل نعيش زمن اللامساءلة؟

حمادي ولد آباتي

قدّمت محكمة الحسابات يوم التاسع من مارس تقريرها الجديد عن السنوات 2022 و2023، فكانت كمن يفتح نافذة على بيت مملوء بالغبار.
كشف التقرير عن خروقات مالية وإدارية يصعب تصوّرها: اختلاسات بملايين الأوقية، شركات وطنية كبرى على حافة الإفلاس، عشرات آلاف الاشتراكات الكهربائية لا يدفع أصحابها مقابلاً، توظيفات خارج القانون، وصفقات عمومية أُبرمت بلا دراسات ولا مؤهلات.

هذه ليست مجرد “أخطاء إدارية”، بل هي مظاهر مرض مزمن في بنية التسيير العام، مرض اسمه غياب الردع، وضموره كلما دخلت السياسة والقبيلة على خط العدالة.

تكرار بلا أثر

ليس هذا التقرير الأول من نوعه. فقد صدرت تقارير مشابهة في 2019 و2020 و2021، وكشفت عن فساد واسع، لكنّها لم تُحدث أي تغيير.
الأسماء التي وردت فيها لم تُعزل، بل إن بعضهم رُقِّي في المناصب التي ارتكب فيها المخالفات نفسها.
هكذا يتحول التقرير من أداة محاسبة إلى وثيقة أرشيفية تُضاف إلى رفّ النسيان العام.

ومع كل تقرير جديد، يتجدد السؤال ذاته:
ما جدوى أن نعرف حجم الفساد إذا كان الذين يُفترض أن يعالجوه هم أنفسهم جزء من بنيته؟

السلطة والولاء بدل الكفاءة

يمنح الدستور لرئيس الجمهورية صلاحية عزل المسؤولين ومحاسبتهم، لكن التجربة أثبتت أن الإرادة السياسية لم تتجه يومًا نحو تطبيق ذلك بصرامة.
ففي بلدٍ تتشابك فيه السلطة بالقبيلة، يصبح القرب من “المشيخة” أهم من الكفاءة، والانتماء أهم من النزاهة.
وهكذا تتحول الدولة إلى شبكة مصالح مغلقة، تتبادل الحماية داخلها الأطر والنافذون، بينما يبقى المواطن البسيط متفرجًا على مسرح عبثي يُعاد عرضه كل عام.

الشارع بين الغضب والصمت

ما يثير القلق أن الشارع الموريتاني لم يعد يعبّر عن غضبه كما كان يفعل في الماضي.
الناس اليوم بين متفائلٍ يعلّق الأمل على “إصلاح قادم”، ويائسٍ يرى أن كل تقرير جديد ليس سوى حلقة من مسلسل لا ينتهي.
فقد تحولت الصدمة من الفساد إلى عادة، والاعتياد أخطر من الجريمة نفسها، لأنه يقتل الحس الأخلاقي ويطبع مع الانحراف.

هل يجرؤ أحد على كسر الحلقة؟

في الواقع، لم يعد الخطر في الفساد ذاته، بل في تحوله إلى قاعدة حكم غير معلنة.
فما دامت التقارير لا تتبعها محاكمات، وما دام “المذنب” يُكافأ بدل أن يُحاسب، فإن رسالة النظام إلى موظفيه واضحة:
افعل ما تشاء، فالمحاسبة انتقائية، والعقوبة سياسية.

ومع ذلك، يبقى الأمل مشروعًا في أن يدرك من بيده القرار أن الصمت على الفساد خيانة لمستقبل الدولة، وأن التغاضي عنه ليس دهاءً سياسياً بل تواطؤ مع الخراب.

خاتمة: مسؤولية لا يمكن الهروب منها

تقرير محكمة الحسابات الأخير ليس حدثًا إداريًا عابرًا، بل إنذار وطني يجب أن يُقرأ بعين الخوف على الدولة لا بعين التبرير للمتنفذين.
فإن لم تتحول هذه الوثيقة إلى بداية مساءلة حقيقية، فسنجد أنفسنا ذات يوم أمام وطنٍ نُهبت مؤسساته حتى الجذور، وصار الفساد فيه هو القاعدة، والنزاهة هي الاستثناء.

ويبقى السؤال مفتوحًا أمام من يملكون القرار:
هل نعيش زمن اللامساءلة؟
أم أننا سنشهد أخيرًا ميلاد دولةٍ تحترم ما تكشفه محكمتها العليا؟

حمادي ولد آباتي

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى