ابتداءً، أنبه إلى أن وجهة النظر هذه تقفز نوعاً ما – وبحسن نية – على المخرجات المحتملة للحوار المرتقب صوب أفق 2029، كما لو بقي الحال على ما هو عليه في الحين من الاصطفاف السياسي لدى الأغلبية والمعارضة والمستقلين أيضاً.
هو – إن شئتم – استشراف للقادم مبني على توقعات انطلاقاً من الوضع العام في البلد المقبل لا محالة على اقتراع رئاسي، وربما استفتائي، عملاً بما قد ينتج عن الحوار إن كان سيتم على الصيغة الجامعة، والتي وحدها تخلق منه ومن عواقبه عماداً قانونياً؛ ذلكم أن إجماع الأمة الحق، إن كان دون الدستور، فبطفيف لقابليته للدسترة إذا احترم الشكل المراد.
وقد أجلت الحديث عن المأمورية الثالثة مع التذكير بوجهة نظر “مونتسكيو” (Montesquieu) القائلة بأن الصانع تلازمه القدرة في التبديل والتعديل، حيث ليس من المنطقي أن تكون مصدر الخلق وتدعي العجز عن التأثير في المصنوع. نحن اليوم لا نزال على بعد سنوات من 2029، لكن المؤكد أنها قادمة لا يتغير زمنها، ولا تبديل لليومين المصادفين للشوطين الأول والثاني – إن تحتم – فلا تستعجلوه.
إن استعجال الكلام عن الترشحات من دون تبصر في بيئة هوياتية، وإن كان يدخل في المباح، قد فتح الباب للكافة، كل من الجهة التي ينظر منها للأحداث؛ حيث الموضوع مهم ووجهة نظر الجميع مطلوبة. إن الحديث عن الخلافة وابتدار التفكير في الوضع فتحا الباب، وأحلا للأقلام أن تسطر من باب الترف الفكري المقرون برؤى فردية.
فلدي العامة وبعض المثقفين استشفاف بأن الحكم، كغيره من الأنظمة، سيسعى لأن يحافظ على حضور متين في أي نظام قادم دونما إخلال بمتطلبات الدستور. ومنه الإتيان بمن يضمن استمرارية المنهاج، حيث ينطلقون من كونهم أقاموا مشاريع مهمة لصالح البلد ومن المصلحة عدم فسادها، يضاف له الحيطة من تهديدات معلنة من المنافسين.
لئن كان ثمة من تعجل مناصروه بتقديمه كخليفة قبل حلول الأوان، فقد أظهرت الخطابات الأخيرة – ومن دون لبس – محاولة جادة لمداواة ذلك من خلال التركيز على برامج الرئيس التي انتخب من أجلها لمن أراد مكاناً في النظام. ويظهر عدم نضج الاستعجال في كونه تم وما تزال سنوات من المأمورية الثانية، والأمل لم يقطع بعد في لم الشمل، ناهيك عن التعثر الذي يعيشه الجوار وما يظهر فيه من تبدلات لا تسكن إلا لتدخل فوراناً جديداً، ثم للمناخ الدولي.
وأياً كان مقصدهم، فقد زادوا من تفطن ويقظة من بيدهم الأمور في مراجعة كامل الأجندة استعداداً لكل طارئ، فقد يؤتي الحذر من مأمنه. نسوا أن دعم الرئيس المنتهية ولايته للمرشحين يشكل نسبة تكاد تمكنهم من الفوز، أو على الأقل الذهاب للشوط الثاني الذي يعد اللجوء إليه في غاية الأهمية؛ لأنه حاصل مجموع انتخابي قريب جداً من “الحسن” يحسب له حسابه.
أمة العالم الثالث ترى أن تكامل الأنظمة وعدم تنافرها يعني إبدالاً كيساً يحترم الشكل القانوني عبر الاقتراع، لكن مع خليفة يحافظ على ما تم تشييده من خلال التغيير في ظل الاستقرار. إن الدول ذات التنوع الثقافي، والذي في أصله يمنح وحدة وصلابة، تعاني اليوم من عواقب دعاة التشذرم واللون والفئة، ولذلك كثيراً ما يجنح مواطنوها إلى تفضيل الاستقرار ولو كان على حساب الديمقراطية.
وعلى كل مرشح يعشق اعتلاء الكرسي أن يكون خطابه متسماً بقدر من المكر السياسي حتى ينجح في كسب ود الحكام مسالمة أو متاركة؛ لأن الخطاب الثوري – وإن كان يزيد الحاصل الانتخابي من فئات عمرية – ففي المقابل يقلله لدى آخرين. ويجب التنبيه إلى أن واقع احترام المأموريات المشروعة في 2019 فرض نوعاً ما لدى المواطن شبه اعتراف بأن ذلك المكسب قد حصل بالفعل، وأنه يصعب التغيير فيه بيسر، رغم ما ذكرنا من آراء لأصحاب اختصاص قانوني على المستوى الدولي.
ويؤخذ على المعارضين عنف الخطاب، والأولى أن لا يسخنوا الكلام ما قبل الحملات، وأن يبدوا حسن النية وغفران ما سلف. هذا الوضع الاجتماعي المتسم بخطاب التشرذم نسجل فيه بارتياح كبير قبول إدارة الوظائف العليا في البلد على قاعدة احترام صلاحية الحاكم وعدم اشتراط حضور الفئة فيه، وهو تقدم إيجابي يراد له أن يترجم إلى منح الأولوية للجدارة أياً كان الانتماء الفئوي.
لكن ستبقى أسئلة لا قبل لأحد بجوابها، من قبيل: من هم المترشحون في 2029؟ من هو الأوفر حظاً؟ وما الذي سيتمخض عنه الحوار؟ أعرضه لا لأتنبأ أو أتكهن، بل للفت انتباه المعنيين بالشأن العام والمثقفين للتبادل ومشاركة الآراء في كل ما يهم الأمة، ولتبسيط كل صعب؛ لأن السكوت على المعضلات غير مناسب أمام إمكانية تيسيرها إن صدق العزم.”



