بلدية لكصر: الصورة الكاملة.. (تحقيق)
1 – العلم الأبيض
بلدية لكصر، بناية صغيرة وأنيقة، في باحتها مسجد بجانبه مقهى، سيارات متوقفة إحداها كتب عليها “مصلحة التحصيل” تبدو معطلة، وأخرى كتب عليها “بلدية لكصر” معطلة هي الأخرى. ستة أعلام مرفوعة عند البوابة الداخلية، ثلاثة في اليمين، وثلاثة في اليسار. العلم الأوسط من الثلاثة يختلف عن الاثنين، لونه أبيض ويحمل كتابات لا يمكن رؤيتها لأنه مبطن على العمود بحبل.
لافتة بارزة مثبتة على الواجهة تحمل شعار : “نسعد بخدمتكم.”
في المسجد شيخ وقور يصلي بالناس الظهر عند الساعة الثانية والنصف زوالا، وفي المقهى سيدة تصنع الشاي، وثلاجة يضع فيها العمال قننينات ماء للشراب.
الناس يدخلون ويخرجون بحرية، لا حراس ولا بوابين، منهم من يسأل عن تيام، أصدقاؤه يلقبونه بالعمدة ويعتذر عن ذلك بلباقة، لكنه في النهاية يستحق لقب العمدة؛ لأنه أولا، أحد المستشارين البارزين في البلدية، وثانيا، لأنه رجل نشط، ومستعد، ولديه تجربة تزيد على 20 سنة في بلدية لكصر، لديه دراية بجميع الملفات. في الداخل مكاتب متقابلة، في الجانب الأيسر سيدتان تتوليان تحرير شهادات الفقر، والبطالة، والسكن، إلى غير ذلك. وفي الجانب الأيمن يتم تحرير الوثائق المخزنة في جهاز الكمبيوتر، وتتولى رامتا عبد الودود سحبها ومتابعتها، تساعدها في المهمة زميلتها مريم.
أغلب المواطنين الذين يتوجهون إلى البلدية جاءوا من أجل تلك الوثائق.
2 – شهادة العرف
رامتا تجيد التعامل مع جهاز الكمبيوتر، وتتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، تحفظ الإجراءات المتعلقة بجميع الوثائق، وتعرف الأسباب التي تجعل المواطنين يطلبونها إلا وثيقة واحدة من بين هذه الوثائق العشرين، وهي وثيقة يطلبها الموريتانيون المقيمون في فرنسا، ورقة يقال لها Certificat de coutume لا نعرف لها مقابلا باللغة العربية، ربما تكون كلمة كوتيم هنا تعني العرف أو الثقافة أو العادة أو الإثنية أو العرق بالنسبة للأبوين. تحدد الوثيقة نسبة الأبوين إلى الأثنيات الموجودة في موريتانيا (بيظان، ولوف، بولار، سوننكى). الفرنسيون وحدهم هم الذين يطلبون هذه الوثيقة، ولا ندري لماذا، والناس في موريتانيا حساسون بمسألة الوحدة الوطنية، ولا يحبون أن يفرق بينهم في الوثائق الرسمية.
من هذه الوثائق ما يوقعه العمدة، ومنها ما يوقعه العمدة المساعد.
يوقع العمدة شهادة العرف أو الثقافة السالفة الذكر، ويوقع الكفالة، وتطابق الاسم، وعدم الطلاق، والأمومة، والنسب. كما يوقع العمدة المساعد شهادات الحياة الفردية والجماعية، والإقامة، والسكن، وعدم الزواج، والإعالة، والحالة المدنية، وحسن السلوك، والقرابة في النسب، والبطالة، والفقر.
شهادة عدم الزواج يطلبها الجيش من المنتسبين الجدد، وشهادة الفقر يطلبها المستشفى من أجل الاستفادة من الضمان الصحي.
في الطابق العلوي مكاتب العمدة محمد السالك ولد عمار، والأمين العام العبقري الحاج، وبجانبهما مكتب المساعدة الأولى فطمة بنت محمد الكبير ولد معيوف. إذ يفرض قانون النوع في موريتانيا أن تكون المساعدة الأولى للعمدة امرأة.
3 – المربع النظيف
ترى بنت المعيوف أن البلدية لا يمكن أن تتنازل عن مسؤولياتها حيال مسألة النظافة، وهو رأي يتقاسمه معها العمدة الذي يدعم الجهود الرامية إلى إعادة النظافة للبلديات، بعد أن كانت من اختصاص الهيئة الحضرية ثم الجهة، جهة نواكشوط. وتسعى الترتيبات الجديدة إلى إشراك البلدية بتكليفها بالرقابة. وترى بنت المعيوف أن الرقابة لا تكفي، وعلى البلدية أن تتولى مسألة النظافة بشكل كامل. ويقول العمدة إن حق البلدية في تحمل النظافة من الحقوق التي تنتزع، وذلك ما يسعى إليه بالتنسيق مع بلديات نواكشوط الأخرى.
تقول بنت المعيوف إن “البلدية بصدد تقسيم المقاطعة إلى أربع مربعات نظيفة، وسوف نبدأ الأسبوع القادم بتنظيف وإزالة هياكل السيارات في المربع الأول، وهو المنطقة الواقعة بين ملتقى الطرق المعروف بكرافور ولد اماه، وكارافور اشريف، وكارافور سيتيرنات، وكارافور السوق، وبعد عملية النظافة هذه سوف نضع حراسا تابعين للبلدية يسهرون على نظافة المربع، ثم ننتقل إلى منطقة أخرى، وهكذا”.
وترى يحجب بوها بنت اعليات، العمدة المساعدة ببلدية لكصر، إن البلدية تسعى من خلال مواكبتها للعملية الراهنة – التي حصلت فيها على الرقابة والمتابعة – إلى القيام بأعلى ما في وسعها من أجل ان تستعيد مسألة النظافة، لأن المواطن أول ما يسائل عنه البلدية هو النظافة.
4 – الفريق الواحد
عمدة لكصر شاب قادم من الوسط الجامعي، درس في فاس، ويدرس اللغة الإنجليزية في جامعة نواكشوط.
انتخبه المستشارون البلديون عمدة مكان اماتي بنت حمادي بعد انتخابها على رأس المجموعة الحضرية.
وقد حصل حينها – وهو أصغر عمد موريتانيا سنا – على أصوات جميع المستشارين الذين من بينهم مستشارو تواصل الحزب الإسلامي المعارض، وذلك رغم كونه مرشحا من قبل الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم.
وقد أعيد انتخابه بالاقتراع المباشر لمأمورية ثانية، أكمل منها عامه الأول على رأس مجلس بلدي من 21 مستشارا، من بينهم سبعة من الجبهة الشعبية.
يقول ولد عمار إنه يعمل وفق قاعدة الفريق الواحد مع مستشاري الجبهة الشعبية، كما فعل في مأموريته الأولى مع مستشاري تواصل الذين صوتوا له آنذاك لدى انتخابه على رأس بلدية لكصر.
5 – العائق
ويرى عمدة لكصر أن العوائق التي تواجه البلديات في نواكشوط بصفة عامة، وفي لكصر على وجه الخصوص، متعلقة بمسألة اللامركزية التي تم اجتلابها من المستعمر بعملية قص ولصق لا تراعي الخصوصيات الوطنية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعاني البلديات من نقص الصلاحيات؛ فهي ليست معنية بالماء، ولا الكهرباء، ولا الصرف الصحي، ولا حتى النظافة التي هي من صميم مسؤولياتها، وليست لديها ميزانية استثمار لبناء المنشآت الكبيرة، كالمدارس، والمستوصفات، أو الملاعب الرياضية، فدورها يقتصر – وفق القانون – على الإصلاحات البسيطة والترميم لتلك المنشآت أو تقديم بعض المساعدات للمحتاجين أو تنظيم أنشطة رياضية أو ثقافية فحسب.
الموارد المادية والبشرية لبلدية لكصر التي تعتبر مع بلدية تفرغ زينة من أغنى البلديات هي ما يناهز 150 مليون أوقية قديمة سنويا تدفع منها 90 مليونا لأجور العمال البالغ عددهم 72 عاملا، والباقي يتم صرفه في التدخلات المتعلقة بالتعليم، والصحة، والرياضة، والثقافة، والمساعدات الاجتماعية.
قمنا بتوحيد بوابات المدارس – يقول العمدة – ورممنا المستوصف القديم المعروف بـ طب الحاج، وجدناه غارقا في المياه، هذا بالإضافة إلى العديد من التدخلات الأخرى في مجال الرياضة كتنظيم بطولة سنوية لكرة القدم، وأنشطة ثقافية متنوعة، ومساعدات تقدم للمحتاجين وأصحاب الاحتياجات الخاصة.
6 – بئر نواكشوط
يعتز عمدة لكصر بأن بلديته هي البلدية الأقدم في مدينة نواكشوط لديها أول مسجد، وأول مستوصف، وأول مطعم، وفيها بئر نواكشوط الذي تأسست عليها المدينة، وذلك ما شجعه على الدخول في توأمة مع مدينة فاس العريقة عندما كان في زيارة للجامعة التي كان يدرس فيها، فانتهز الفرصة لتوقيع شراكة مع المجلس الحضري لمدينة فاس، وقد استفاد العديد من أعضاء المجلس البلدي من تكوينات في فاس بفضل تلك الشراكة.
قال ولد عمار – في سياق حديثة عن حصيلة الإنجازات لبلديته – إنه عكف أولا على ترتيب البيت الداخلي، ومن أجل ذلك قام بتسوية متأخرات 7 أشهر من أجور العمال وضبط وضعياتهم المتعلقة بالضمان الصحي والاجتماعي، وقضاء الديون.
7 – الزائر الدولي
قال في جلسة الحوار التي خص بها وكالة صحفي للأنباء في مكتبه الخميس 28 أكتوبر 2019، إنه شارك مرة في برنامج “الزائر الدولي” في الولايات المتحدة الأمريكية ضمن جماعة من العمد من بينهم أفارقة، فكانت استفادته من التجارب المشابهة لبلديته أكبر من استفادته من التجربة الأمريكية التي كانت هي هدف الزيارة، فقد تفاجأ من عمدة بلدية ميدفال – وهي ضاحية في عاصمة إفريقيا الجنوبية – عندما قال له إن ميزانيه 59 مليون دولارا، لكنه لم يستغرب الأمر عندما علم أن صلاحيات البلدية هنالك بعيدة كل البعد عن ما نعرفه في بلادنا، فصلاحياتهم تشمل الصرف الصحي، والإنارة، وتحلية المياه، والمنشآت الكبيرة، ويسمونها الحكومة المحلية، ونحن مقيدون بهزالة الصلاحيات.
8 – الضريبة
ومع ذلك يبقى العمدة هو الشخص الوحيد الذي لا يمكن أن يتنصل أو يتهرب من مشاكل المواطنين، لأنه يجلس بينهم، ويسكن معهم، ويلقونه في كل وقت، وليس كمثل الوزير أو النائب أو عضو المجلس الجهوي. المواطنون ينظرون إلى العمدة على أنه هو الشخص الذي انتخبوه من أجل حل مشاكلهم بشكل مباشر، سواء تعلق الأمر بالماء، أو الكهرباء، أو الصرف الصحي، أو الأمن. المواطن لا يقبل من العمدة أن يكون عاجزا عن إزاحة القمامة عن باب داره، خاصة إذا كان هذا المواطن يمارس نشاطا تجاريا ويدفع الضريبة للبلدية مهما كانت قيمتها.
أصحاب المحلات التجارية في الأسواق والورشات يدفعون ضريبة تتراوح بين ألف أوقية وستة آلاف كحد أقصى، تتولى مصلحة التحصيل جمعها، وهي التي تشكل أغلب الميزانية.
يقول ببكر صاحب ورشة إصلاح السيارات في سوكوجيم بى أس إنه يدفع 2000 أوقية كل شهر لبلدية لكصر، وأن زميله الكهربائي الذي يتقاسم معه المحل يدفع 2000 أوقية أيضا.
ويرى العمدة أن دفع الضريبة تصرف مدني يساعد على وعي المواطن، وأن النظام الحالي يجب أن يراجع إلى الزيادة، فمن غير المعقول – في رأيه – أن تكون ستة آلاف أوقية هي الحد الأقصى، فهنالك أنشطة اقتصادية كبيرة وعلى أصحابها أن يدفعوا أكثر.
9 – الطموح
يرى عمدة لكصر أن المعاناة من تداخل الصلاحيات مع الهيئة الحضرية كانت كبيرة، فقد امتصت الهيئة الحضرية جميع صلاحيات البلدية، وامتصت الموارد، لكن الوضع أصبح أفضل مع المجالس الجهوية التي هي أكثر استقلالا في الوقت الراهن عن البلديات وصلاحياتهما أقل تداخلا، وذلك ما يجعلنا مقبلين على فترة أفضل، سوف تمكن من توسيع دائرة التدخلات ووضع برامج عمل أكثر طموحا، خاصة أننا – يقول العمدة – في انتظار عودة بعض الموارد التي كانت تذهب إلى الهيئة الحضرية.
10 – الصورة
كانت لدينا صورة نمطية عن العمدة، وعن البلدية، تختلف عن تلك التي وجدناها بعد التحقيق في بلدية لكصر.
كنا نتصور أن عمدة المدينة هو سيدها، وأنه يتحكم في كل شيء، وعادة ما يكون رجلا كبيرا في السن، من أقدم رجال السياسة، لديه جميع السلطات، ويتولى تسيير كافة المنشآت العمومية من مدارس، ومستوصفات، وملاعب، ودور الشباب، وأسواق، ومقابر، ويتحكم في النقل، والأسواق، والبناء، فوجدناه شابا مثقفا يرتدي زيا رياضيا متواضعا، ويتناول الأمور بعفوية وبساطة نادرة لدى المسئولين الكبار، يكافح من أجل الحصول على أدنى قدر من الصلاحيات لبلديته.
11 – الصندوق
حدثنا في جلسة الحوار التي خصنا بها في مكتبه عن كل شيء، وفتح لنا جميع الأبواب، لكننا في النهاية لم نتمكن من الوقوف على جميع الحقائق، فقد اختلفت مصادرنا بشأن أمور كثيرة.
مصادر من داخل البلدية تقول إن ميزانيتها تبلغ 250 مليون أوقية، ومنها من يقول إنها تنقص عن 70 مليون، فعندما يتعلق الأمر بالنقود يتحول الرجال إلى صناديق مقفلة.
وجدنا أن الديون لم يتم قضاؤها بالكامل، وأن وضعية العمال – مع الضمان الصحي، والضمان الاجتماعي – لم يتم تسويتها.
فبالنسبة للضمان الصحي، يتم اقتطاع المشاركات (أربع آلاف أوقية) من أجور العمال منذ بداية العام، لكنهم لم يستفيدوا – إلى حد الساعة – من ذلك الضمان. وبالنسبة للضمان الاجتماعي أيضا، وجدنا عمالا متقاعدين محرومين من حق التقاعد بسبب ما يعتقدون إنه تراكم ديون البلدية لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
12 – الضوء
كما تحققنا أيضا من صحة أمور أخرى وردت في حديث العمدة ومعاونيه، كتوحيد البوابات المدرسية، وتأهيل “طب الحاج” والملعب، وبطولة سنوية لكرة القدم، وأسبوع ثقافي، وكذلك السرعة في تسليم الشهادات والوثائق التي يطلبها المواطنون من البلدية، وأن مسألة المياه لم تعد مطروحة في حي سوكوجيم بى أس كما كانت في السابق.
تلك نقاط مضيئة في حصيلة الإنجازات لبلدية لكصر، وقد وجدنا نقاطا أخرى غير مضيئة – كمقبرة لكصر، وأذون البناء – تحتاج إلى مزيد من الفحص والتدقيق للوقوف على حقيقتها.
13 – الظلام
وجدنا أن القبور تباع بأسعار مختلفة في مقبرة لكصر، رغم أنها مغلقة رسميا من قبل هيئة نواكشوط الحضرية، وكتب على بابها باللغة الفرنسية أن إذن الدفن فيها من اختصاص الرئيس وحده.
وجدنا الأغنام السائبة تمشى على الأضرحة في وضح النهار.
وجدنا غموضا وشحا في المعلومات المتعلقة بإذن البناء، ويقول مقاولون إنهم يدفعون للبلدية، ويدفعون للمقاطعة، ويدفعون للشرطة، وإن الحصول على إذن البناء أمر مكلف ومعقد للغاية.
رأينا الشمع الأحمر : رأينا رجالا لديهم سلاسل وأقفال، يرافقهم الشرطة، نظنهم ذاهبون للضغط على من يمنعون دفع الضريبة.
14 – العودة
عدنا مجددا إلى البلدية لطلب إيضاحات حول المسائل التي لمسنا فيها شيئا من الغموض كالميزانية، وإذن البناء، والمقبرة، والضمان الصحي والاجتماعي بالنسبة للعمال.
فقال لنا رئيس المصلحة الفنية علي ولد بَلاَّل إن الدفن في مقبرة لكصر مجاني، ولا يتطلب إلا شهادة وفاة من المستشفى، وأن إذن البناء يتطلب وثائق ملكية، ومخطط مصدق، وبطاقة تعريف، ويدفع عنه مبلغ يتراوح بين 10 ألاف و50 ألف أوقية قديمة حسب المساحة.
وقال العمدة إن جميع الديون تم قضاؤها بالكامل بفضل الله ومنته، وأن المبالغ المخصصة للضمان الصحي تم دفعها، وسوف تبدأ الاستفادة الفعلية للعمال من ذلك الضمان مع بداية العام، كما تمت تسوية العديد من الحالات المتعلقة بالضمان الاجتماعي وحق التقاعد، ونحن بصدد تسوية الحالات المتبقية، وقال إن الميزانية الأصلية لسنة 2019 تبلغ بالتحديد 21 مليونا و282 ألفا و181 أوقية جديدة.
وتبقى القضية الكبرى، والسؤال الكبير، هو: هل تنجح بلدية لكصر وبلديات نواكشوط الأخرى في كسب معركة الصلاحيات أو على الأقل، هل سينجح العمدة الشاب في انتزاع حقه في إزالة القمامة عن باب داره في بلدية لكصر؟
إعداد :
سيد احمد ولد مولود
سيد ولد محمد الأمين
سيد الطيب ولد المجتبى
أحمد ولد الخالص