نعم، إنها حربٌ ضرورية… بل حتمية.
ومَن يخاصمها إنما يخاصم ضمير الأمة.
لكنها، في العمق، امتحانٌ قاسٍ لمصداقية الدولة، واختبارٌ لمدى قدرتها على مواجهة ذاتها قبل خصومها.
فإن كانت هذه الحملة جادّة، صارمة، مستمرة، فسوف تُعيد للدولة هيبتها وللوطن روحه.
أما إن كانت موسميةً أو انتقائيةً أو خاضعة لموازين الولاء والخصومة، فستتحوّل إلى جرحٍ جديد في جسد الوطن، وإلى خيبةٍ قد تكون أشد مرارة من الفساد نفسه.
أمام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني اللحظة الأنسب سياسياً، إذ لا يقيّده حساب انتخابي ولا يحدّه طموحٌ شخصيّ، بل يقف في مأموريته الأخيرة أمام فرصةٍ نادرة ليُخلّد اسمه كمن أعاد للدولة توازنها الأخلاقي.
ولأن التاريخ لا يرحم من تردّد عند المنعطفات الكبرى؛ فليس أمام الرئيس سوى أن يمضي في الطريق الذي اختاره، حتى النهاية، دون أن يسمح للدوائر القديمة بأن تلتقط أنفاسها من جديد.
الخلل ما زال كامناً في البنية التي تنتج الفساد.
إذ هو ليس مجرد أرقامٍ في تقاريرٍ أو تجاوزاتٍ مالية؛ إن جوهره الحقيقي هو أن تُدار المناصب على أسس القرابة والمصاهرة، وأن يُقصى الكفؤ لأن لا سند له، ويُقدَّم الضعيف لأن له ظهراً.
تلك هي الجريمة التي تُفقد الدولة معناها، وتحوّلها إلى غنيمة لا إلى مؤسسة. !!.. فليس أقسى على العدالة من أن يُصاب سيفُ المحاسبة بالصدأ في يد المحسوبية، فيستبدل الفاسدين بالأقارب….. والإصلاح لا يكتمل إلا حين تُرفع الكفاءة إلى مقامها، وتُنزَل المحاصصة الجهوية والقبلية عن عرش القرار..
إن الحرب على الفساد هي المدخل الوحيد نحو عدالةٍ اجتماعيةٍ حقيقية، فالفقر والغبن والهشاشة ليست سوى نتائجٍ متراكمةٍ لنظامٍ فاسدٍ في توزيع السلطة والثروة.
وحين يُصلح الرئيس هذا الباب، يفتح في الوقت ذاته باب الأمل أمام المهمشين والمنسيين الذين لم يروا في الدولة يوماً سوى وجهها البعيد.
أما إذا تُركت الحملة بلا رؤيةٍ اجتماعيةٍ ترافقها، فسنبقى نحارب مظاهر الفساد بينما جذوره تضرب عميقاً في أرض اللامساواة.
لقد بدأ الطريق أخيراً، لكن المدى ما زال بعيداً.
وإن ضاعت هذه الفرصة — كما ضاع غيرها — فسيُضاف إلى سجلنا جرحٌ جديد، عنوانه أن الدولة رأت الخطر… ثم غضّت الطرف.
محمد الأمين الداه




