حين يُدار التعليم بمنطق الولاء لا الكفاءة، يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج الجهل وتوريث التبعية.
> “حين يتحول الجهل من عجز عن المعرفة إلى أداة لإدامة السيطرة، يصبح التعليم نفسه ساحةً لإعادة إنتاج الهيمنة.”
في خضم موجة التفاعلات التي أعقبت نشر تقرير محكمة الحسابات، وجد كثيرون فيه ما يؤكد ما ظلوا يردّدونه منذ سنوات عن تفشي الفساد وتمدده في مفاصل الدولة، بينما كان التقرير نفسه صدمة لأولئك الذين ما فتئوا يسبّحون بحمد النظام ويقودون الحملات الدعائية لتبرير اختلالاته. وبينما انشغل الرأي العام بالأرقام والاتهامات، جاءت حوادث تبدو صغيرة في ظاهرها لتكشف، في عمقها، عن خلل بنيوي أعمق يتجاوز مجرد الفساد المالي إلى ما يمكن تسميته بالفساد البنيوي في إدارة الإنسان والمجتمع.
فقد تقدّمت رابطة آباء تلاميذ مدرسة ادباي بكل – وهو تجمع سكاني من فئة لحراطين – بشكوى من قيام مفتش مقاطعة مونكل بنقل معلم اللغة الفرنسية الوحيد في مدرستهم، رغم أن المدرسة تضم أكثر من ستمائة تلميذ، إلى مدرسة لا يتجاوز عدد تلاميذها عشرة فقط. تصرف كهذا لا يمكن فهمه إلا في سياق الاستهتار بمشاعر مكوّن اجتماعي كامل، وتجسيدٍ لممارسات لا تمتّ بصلة لمبادئ العدالة أو المهنية التربوية.
وليس ذلك المثال سوى حلقة من سلسلة طويلة. ففي قرية اتويدمات لكران التابعة لبلدية واد أمور بمقاطعة مقطع لحجار، توجد مدرسة بسيطة لا تتجاوز فصلين دراسيين. وقد حُوِّل إليها معلم جديد، وربما كان ثانٍ في الطريق. لكن بعد أيام قليلة من مباشرته العمل، حزم أمتعته وغادر دون سابق إنذار. وعندما سأله الأهالي إلى أين، أجاب بأنه سيعود إلى المقاطعة لأنه سمع أن الدولة أقامت تجمعًا ستُنقل إليه تلاميذ المدارس المحيطة، وأن قريتهم من ضمنها. ردّ الأهالي بأن هذا كان العام الماضي، وقد رفضوه كباقي القرى البعيدة عن موقع التجمع لعدم وجود وسائل نقل وصِغر سن الأطفال. غير أن المعلم أصرّ قائلاً: “رأيي أنه أفضل لكم”، ثم مضى تاركًا التلاميذ بلا معلم.
وحين اتصل الأهالي بالمفتش للاستفهام، أجاب أنه لا علم له بما جرى، وأنه لم يلتقِ بالمعلم منذ رحيله… إلى اليوم.
هاتان الحادثتان – في ادباي بكل واتويدمات لكران – تبرزان بوضوح كيف يتحوّل التعليم في الأطراف إلى ساحة للارتجال والتسيّب الإداري، بينما تظل المدارس في مراكز النفوذ والولاء تحظى بكل أشكال الدعم والاهتمام. وهي مفارقة تختزل مفهوم الدولة العميقة التي تحرص على احتكار التعليم الجيد لأبناء فئة محددة، لتبقيهم دائماً في موقع السيطرة والهيمنة.
إن هذه السلوكيات ليست مجرد أخطاء فردية، بل هي انعكاس لبنية اجتماعية سلطوية ما زالت تهيمن على مفاصل الوعي الجمعي، حيث الطاعة قاعدة للسلوك والنقد خروج عن المألوف، وحيث تُحتكر الحقيقة والمعرفة في يد نخبة صغيرة تفرض رؤيتها على الجميع، بينما يُجبر الأفراد على الامتثال دون مساءلة.
لقد أشارت الفيلسوفة حنة أرندت إلى أن المجتمعات التي تُقصي الحوار الحر وتخنق النقاش العمومي، تؤسس لفضاء عام عاجز عن التمييز بين الحقيقة والدعاية. وهنا يكمن جوهر الأزمة: حين يصبح الجهل جماعياً، ويتحوّل إلى أداة ممنهجة لإبقاء الناس في دائرة التبعية والضياع، يصبح التجهيل سلاحاً سياسياً أشد فتكاً من أي سلاح مادي.
فـالجهل ليس مجرد نقص في المعلومات، بل هو نظام للهيمنة يُعاد إنتاجه عبر مؤسسات التعليم والإدارة والإعلام. إنه حالة من السيطرة الناعمة التي تُصادر حرية التفكير النقدي وتُعطل طاقة الإبداع، لتبقى الجماهير محصورة في دور المتلقي السلبي، بعيداً عن الفعل والمساءلة.
إن المجتمعات التي تسمح باستمرار هذا النمط من التجهيل الممنهج، تفتح الباب واسعاً أمام تكريس اللامساواة وإبقاء الوعي الجمعي تحت رحمة فئة صغيرة تتحكم في مصائر الناس باسم الكفاءة أو الولاء.
لذلك، فإن ما حدث في ادباي بكل واتويدمات لكران ليس مجرد حادثتين معزولتين، بل هما مرآتان لأزمة وطنية شاملة: أزمة في العدالة التربوية، وأزمة في الوعي الجمعي الذي لم يتحرر بعد من بنى الخضوع. وما لم يتحوّل التعليم من أداة للهيمنة إلى وسيلة للتحرر، سيبقى الجهل يُنتَج يومياً في المدارس نفسها التي يُفترض أن تكون معاقل النور.





